رعي الأبقار يرسم مستقبل الضفة- استيطان رعوي وفصل عنصري متسارع

من المثير للسخرية حقًا أن نتصور أن حدود الأراضي بين المجتمعات السكانية تخضع لأهواء بقرة، لكن هذا هو الواقع المرير الذي يسيطر على الضفة الغربية اليوم. إن مصير الأراضي في هذه المنطقة الحيوية يتحدد وفقًا لمسار قطعان الأبقار التي يرعاها مستوطن متطرف، يؤمن بأن تحركات هذه الحيوانات تتم بأمر إلهي. وفي الوقت نفسه، يعتمد العقل الاستراتيجي الإسرائيلي الذي يهيمن على الضفة الغربية على جماعات "مسيحية" متشددة تسعى جاهدة للقضاء التام على الوجود الفلسطيني في المنطقة.
في السنوات الأخيرة، ابتكر المستوطنون في الضفة الغربية مفهوم "الاستيطان الرعوي"، بعد أن أدركوا أن وتيرة التوسع في البناء الاستيطاني، مهما بلغت، لا تكفي لإشباع طموحاتهم في السيطرة على الأراضي. لقد توصلوا إلى قناعة بأن الاستيطان الرعوي، في غضون سنوات قليلة، يمكنهم من حسم مصير ثلث الضفة الغربية وطرد سكانها الأصليين منها. في المقابل، لا يمثل البناء الاستيطاني، على مدى ثلاثة عقود، سوى 1.5% فقط من مساحة الأرض.
تعرب منظمات حقوق الإنسان عن استنكارها الشديد لقرارات الاستيطان التي تصدرها الحكومة الإسرائيلية، وتعمل على إحصاء الوحدات السكنية الاستيطانية التي تقرها الحكومة من حين لآخر للبناء في الضفة الغربية، وتصدر بيانات إدانة حولها. لكن هذا الأمر يبدو عبثيًا إلى حد كبير، لأن واقع الاستيطان في الضفة لا يرتبط بهذه القرارات على الإطلاق. إن معنى قرارات الحكومة الاستيطانية بشأن بناء الوحدات وتصنيفها يقتصر فقط على مسألة اعتمادها كهيئات محلية وأنواع الميزانيات والبنى التحتية التي ستتلقاها من الحكومة الإسرائيلية. أما البناء الاستيطاني الفعلي، فهو مسألة مختلفة تمامًا ولا تخضع لهذه الأرقام.
قبل ثلاثة أشهر تقريبًا، وبينما كنت أسلك الطريق بين نابلس ورام الله، شاهدت، في غضون أسبوعين، بؤرتين استيطانيتين جديدتين، تضم كل منهما ما بين 50 و60 وحدة سكنية، وتقعان على جبل بين مستوطنتي عيلي وشيلو. اللافت في الأمر أنني لم أجد أي ذكر لهما في الإعلانات الاستيطانية، أو في قرارات الحكومة الإسرائيلية. ومثل هاتين البؤرتين، تظهر العشرات من المواقع فجأة كالورم السرطاني وبشكل متسارع.
بالعودة إلى قصة البقرة التي ترسم حدود الضفة هذه الأيام، والتي تتمتع بصلاحيات ونفوذ أكبر من صلاحيات الحكومة الفلسطينية والمجتمع الدولي وحتى الحكومة الإسرائيلية ذاتها، فقد حسمت هذه البقرة وحدها أكثر من نصف مساحة الأغوار، التي تشكل ثلث الضفة الغربية. لقد بات 90% من هذه المنطقة بالكامل تحت سيطرة المستوطنين، الذين يفرضون قيودًا مشددة على وصول الفلسطينيين إليها، حيث لا يُسمح لهم بالسكن والتنقل إلا في 10% فقط من مساحة الأغوار.
فرض المستوطنون في الضفة الغربية قانونًا جائرًا على البدو والمزارعين الفلسطينيين، ينص على أن المدى الذي تسير فيه بقرة المستوطن في رعيها في جبال وسفوح وأودية وسهول الضفة، هو ملك حصري للمستوطن صاحب البقرة. يطلق المستوطنون أبقارهم بينما يسيرون خلفها، وإذا احتج أي فلسطيني على أن تلك الأبقار قد اقتحمت أرضه ودمرت مزروعاته، يتم الاعتداء عليه بالضرب وإخباره بأن المكان الذي تصله البقرة أصبح ملكًا للمستوطنين. وفي المقابل، يُحظر على أي راعٍ فلسطيني أن يطأ بأغنامه مكانًا وطئته الأبقار، أيًا كان هذا المكان.
تدرس الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحالي إصدار تشريع جديد قدَمه وزير الشؤون الإستراتيجية في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، رون ديرمر، يقضي بتطبيق القانون الإسرائيلي على 65% من مساحة الضفة الغربية، أي ضمّها القانوني إلى إسرائيل. وفي المقابل، يطالب مجلس مستوطنات الضفة الغربية ورئيس مجلس ييشاع الاستيطاني، يسرائيل غانتس، المقرب من اليمين الأميركي، بضم كامل الضفة الغربية وفق خارطة محددة يعيش الفلسطينيون فيها في عشرين كانتونًا معزولًا غير متصلة. وبذلك، يصبح الجدال في المرحلة المقبلة حول ما إذا كان الضم سيشمل 65% من الضفة أم كاملها، دون التطرق إلى الوجود الفلسطيني فيها.
ومن المفارقات العجيبة أن مخطط كيدار التاريخي كان يقضي بأنْ يكون الفلسطينيون في سبعة معازل منفصلة في الضفة، واعتبر ذلك صادمًا وأبشع أشكال الفصل العنصري. أما اليوم، فيجري الحديث عن عشرين كانتونًا، ولا يعتبر ذلك كافيًا من وجهة النظر الإسرائيلية.
تعمل إسرائيل حاليًا على الفصل الأخير من هندسة الواقع في الضفة الغربية باتجاه اكتمال الفصل العنصري بشكل ملموس. ويأتي قرار حكومة نتنياهو الأخير بإقامة 22 مستوطنة جديدة لإغلاق كافة الفضاءات التي بقيت مفتوحة حتى الآن في الضفة، خاصة في شمالها، بحيث لن يبقى بعد ذلك أي موقع متصل جغرافيًا، ليس بين المدن الكبرى فحسب، بل بين القرى أيضًا.
ويضاف إلى ذلك أن حكومة الاحتلال تخطط لمنع الفلسطينيين من استخدام الطرق الرئيسية المشتركة مع المستوطنين، خاصة طريق نابلس- رام الله، ومعاليه أدوميم- بيت لحم، وبيت لحم- الخليل، واستبدالها بطرق سيئة فرعية بين القرى، ما يعني مزيدًا من المعاناة في التنقل بين المدن وإمعانًا في الفصل العنصري.
علاوة على ذلك، بدأت إسرائيل في تجاوز عمليات الهدم وتقييد البناء من مناطق "ج" التي تشكل ثلثي الضفة الغربية إلى مناطق "ب" التي تشكل الثلث الباقي والتي وفق اتفاق أوسلو تقع تحت الإدارة المدنية الفلسطينية، حيث سيطرت حتى الآن على أكثر من 34 ألف دونم في مناطق "ب".
لقد غيَرت إسرائيل قواعد اللعبة في الضفة الغربية بالكامل، إذ لم تعد تسمح للاعبين الدوليين التقليديين حتى بالاحتجاج على ما يجري في الضفة الغربية.
قبل أيام، أطلق جنود الاحتلال النار على وفد سفراء أوروبي عربي زار مدينة جنين للاطلاع على واقعها، أما في القدس فقد كسرت كل المرجعيات، الفكرة، حيث إنه لم يعد يسمح لأحد بأن يتدخل في ملف الضفة الغربية وأنَ صاحب القرار الوحيد في أمر الضفة هي الصهيونية الدينية التي تمثل غالبية المستوطنين، مع الإشارة إلى أن قادة الجيش في فرقة الضفة الغربية باتوا في غالبيتهم من المستوطنين.
نقلت صحيفة يديعوت أحرنوت عن مسؤول رفيع في هيئة الأركان قوله: "الضفة الغربية هي الحدث الجلل الذي ينتظرنا، إنه حدث ضخم ونحن نفهم ذلك جيدًا". ويقول يوسي يهوشوع، المحرر العسكري في يديعوت أحرونوت: "لقد كنا في سياق اعتقاد مفاهيمي واحد في غزة، ولكنه انهار. ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا أن ينهار الاعتقاد المفاهيمي الآخر في الضفة الغربية".
تستخدم حكومةُ الاحتلال، بشكل ممنهج السلطةَ الفلسطينية من أجل توفير غطاء لإعادة تعريف الاحتلال ونظام الفصل العنصري في الضفة الغربية دون أي مقاومة من طرف السلطة الفلسطينية، بما في ذلك الاستنكار اعتقادًا من الأخيرة بأن ذلك يمكن أن يحمي وجودها.
نجحت حكومة نتنياهو في وضع السلطة الفلسطينية تحت ضغط هائل من أجل استثمار حالة الخوف من الانهيار، في دفعها لتكون جزءًا من مكون إعادة بناء هذا المشهد الهندسي للفصل العنصري، والتسليم به وترويض الحالة الدولية تجاهه.
لا يمكن إغفال حقيقة أن الفلسطينيين في الضفة الغربية فقدوا وزنهم الإستراتيجي نتيجة لصمتهم المطبق تجاه ما يجري من إبادة في غزة، وسيكون لهذا الصمت تداعيات وخيمة على مستقبلهم، إذ سيساهم في مسحهم من خارطة التوازنات بالكامل في تحديد مصير الضفة الغربية في المرحلة المقبلة. إن التحدي والمعركة الكبرى تكمن في الحفاظ على الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية.
تفقد الضفة الغربية يومًا بعد يوم مقومات صمود الفلسطينيين فيها، في خضم معركة مستمرة تهدف في نهايتها إلى تحقيق الحسم التاريخي للمستوطنين من خلال تهجير تدريجي لسكان الضفة الغربية، وذلك ضمن مخطط الصهيونية الدينية الذي عبّر عنه بوضوح سموتريتش في عام 2017 في برنامجه المكشوف.
ومع الانقلاب الداخلي العميق في إسرائيل باتجاه إحكام سيطرة الصهيونية الدينية والجماعات المسيحية المتطرفة على مفاصل الجيش والأمن في إسرائيل، فإن الضفة الغربية مقبلة على حقبة حالكة من التوحش وتجاوز كافة الخطوط الحمراء التي كانت سائدة لعقود مضت.